نحنا مع الحكومة - الثورة مبارية الزلط
نحنا مع الحكومة - الثورة مبارية الزلط
مجدي الجزولي
إدوارد توماس
الترجمة والتعريب: محمد عبدالعزيز عطية
نُشر
أصل هذه الكلمة بالانجليزية في مدونة مجلة الاقتصاد السياسي الافريقي Review of African Political Economy (ROAPE).
انقضى أكثر من عام على الأحداث التاريخية التي أطاحت بحكم عمر البشير في أبريل 2019. استطاعت الحركة الثورية في السودان في جولة ثانية أن تلوي ذراع جنرالات البشير حتى أجبرتهم على القبول بترتيبات متنازع عليها لمشاركة السلطة مع تحالف قوى الحرية والتغيير – وهو تحالف عريض من خصوم البشير. مثل الحصار الفعَّال الممتد لأشهر، والذي قامت به آلاف المتظاهرات اللواتي نصبن الخيام حول القيادة الرئيسية للقوات المسلحة السودانية، تقليصا لمساحة المناورة المتاحة لجنرالات البشير وفي ذات الوقت محاولة جرئية لإعادة اختراع السياسية لعصر جديد، لم ينبلج مكتملا بعد.
كانت مجزرة الثالث من يونيو 2019 هي الرد المشترك لقوي الجهاز القسري الجيش
والبوليس والأمن والميليشيا - أي كامل المؤسسة الأمنية في السودان - على هذه
المطالب الشعبية الجريئة. هجمت مع بزوغ فجر ذلك اليوم أعداد هائلة من القوات
العسكرية التي ترتدي الزي العسكري لقوات الدعم السريع، والقوات المسلحة السودانية،
وقوات شرطة مكافحة الشغب[1]
على المتظاهرات المخيمات لحراسة الثورة فقتلت كما تيسر لها. انتشل الأحياء جثث
القتلي من مجرى النهر، تخللها الرصاص واعتقلها القتلة بكتل خرسانية علها تغيب إلى
الأبد[2]. هزت
إفادات وتقارير الاغتصاب الوعي والوجدان العام فأطبق عليها بستر الصمت[3].
كانت مجزرة الثالث من يونيو لحظة التعميد لجيل جديد في نار وسيف قوى السلطان.
لذا، لا يستغرب أن صارت ذكرى الثالث من يونيو
ميدانا للتنافس بين شركاء الحكم الذي ورثوا السيطرة على جهاز الدولة. ينشد الجميع
بذكرى الثالث من يونيو، الضباط العظام والسياسيون الطامحون ورجال المليشيا والأمن،
ويطنبون في مدح الشهداء وتمجيد مأثرتهم. استطاع البعض حتى أن يقتلع دمعة من قاع
عينه أمام عدسات الكاميرات مع موسيقى خلفية مناسبة. بالرغم من كل هذه التقوى، تبقى الرواية الرسمية للأحداث
ملتبسة ومتناقضة، فلا عدد القتلى والمختفين قسريا معلوم منضبط ولا هوياتهم جميعا
محققة، كما تظل المسؤولية قيد التشكيك تحوم حولها نظريات المؤامرة وأطرفها ربما
عقيدة الطرف الثالث التي يسعى سياسيون عظام للترويج لها.
تم تكوين لجنة تحقيق في المجزرة بقرار من رئيس الوزراء الانتقالي في أكتوبر
2019[4]،
وقد مُنحت اللجنة فترة 3 شهور للفراغ من عملها تم تجديدها منذها. يرأس هذه اللجنة محام مرموق له سجل من صف حقوق الإنسان وتضم في
عضويتها ممثلين لوزارتي الدفاع والداخلية وجهاز المخابرات ؛ أي ذات الجهات المتهمة
بإراقة الدماء. صرح رئيس اللجنة مؤخرا بأنه غير مُلزم بأي جدول زمني للإفصاح عن
نتائج التحقيق، وقال أيضاً أنه لن يتم الإفصاح عن النتائج للرأي العام بأي حال من
الأحوال وإنما سيتم تسليمها إلى السلطات القضائية[5].
كما هو متوقع، يبدو شأن لجنة التحقيق في أحداث 3 يونيو 2019، كغيرها من اللجان
العديدة الموكلة بالتحقيق في أحداث عنف الدولة خلال فترة العام ونصف الماضية، طغت
عليها وظيفة التسويف والتدليس البيروقراطي.
ربما انكشفت حقيقة مجزرة الثالث من يونيو في عند
الاعتبار في التحدي الذي فرضه موسم الثورة السودانية بطموحه وعزيمته الظاهرة على
عموم النادي السياسي، أو قوى المؤسسة السودانية إذا جاز التعبير. طرحت ثورة ديسمبر
2018 الأسئلة الصواب حول السلطة السياسية، طبيعتها وأصحابها وخضوعها للمساءلة
وقدمت الإجابة عبر اختراع "لجنة المقاومة" على مستوى الحي السكني[6]. "لجنة
المقاومة" صيغة نضالية جديدة شكلاً ومضموناً، وهي بؤرة عمومية مفتوحة على
الشارع لصناعة السلطة الشعبية خارج إطار جهاز الدولة، وقد أثبتت جدارتها بما يفوق
مرحلة التجريب والاختبار في القدرة على التعبئة السياسية والاحتجاج خلال موجة
التظاهرات التي أطاحت بحكم البشير. كما أنها استطاعت منذ ذلك الحين أن تقسم
وتستحوذ على وتمارس ما تيسر من السلطة المحلية. لذا، "لجنة المقاومة" هي
ربما هدية التجربة الثورية السودانية الحديثة إلى العالم بما هي محاولة لاستعادة
المدينة ومواردها التي أصابها التسليع الفج وصارت مسرحا للاصطدام الكوني بين مطلوبات
الاجتماع البشري الأولية، الحق في السكن والطعام والخدمات الضرورية، وواقع مراكمة الأرباح[7]. الأقرب
أن القليل فقط من مناضلات اللجان اطلعن على أفكار هنري ليفيبفر من ستينات القرن
الماضي، لكن ممارستهن تقع ترجمه حية لنداءه "الحق في المدينة"[8].
تحدت ثورة ديسمبر 2018 النظام الاجتماعي أيما تحد واخترق رمحها الطويل لبرهة
هيكل السلطان الأبوي. في هذا السياق تم تداول ونشر الصور الخاطفة للنساء وهن
يتقدمن صفوف المظاهرات بشكل واسع في شتى دوائر الإعلام العالمية وكسبن مكانا في
حركته العجولة. ولكن بعيداً عن اقتصاد المشاهد هذا علقت الثورة في ساعة دفقها ذاك
السلطان الأبوي لأصحاب الجلاليب المخضرمين، شيوخ الدين ورجالات الرأي العام وعظام
الأفندية، وخرج على هذا السلطان جيل من النساء والرجال يستكشف آفاقا جديدة
للانعتاق كانت بعدا مكتوما في الحياة اليومية . صرخ الجيل في وجه شيوخ الدين
وأنزلهم من علياء المنابر وتحرش بالمعلمين الرجعيين في ساحات المدارس وواجه الآباء
بشبهة الاستكانة كما لفظ بغير استئناف السياسي تلو الآخر بتهمة التواطؤ مع
الاستبداد.
تداخل هذان المستويان من الصراع، السياسي
والاجتماعي، مع الدافع المحوري لحركة الاحتجاج والتي كانت في قاعدتها ردا على نظام
من التقشف الاقتصادي في عبارة إسلامية تعثر حتى طاح. أفرخت عمليات متصلة من التحول
النقدي والتسليع وأنماط وحشية من الاستغلال ترجمتها كانت دورات من الحروب والسلب
في الأرياف و الثراء الفاحش والإملاق المميت في الحواضر التناقضات التي سمحت
باستمرار حكم البشير لسنين طويلة ثم فرضت تهاوي سلطانه وقتما تعذر عليه إدارتها.
أعلنت ثورة ديسمبر خصمها المباشر في هيئة كادر
الحركة الإسلامية ضعيف الذمة المالية. لذا ربما ساوت الحكومة الانتقالية في
دعايتها السياسية بين مطلب "تفكيك النظام" وبين نتف موظفين من شيعة البشير من جهاز الدولة البيروقراطي
ومصادرة أموال حزب المؤتمر الوطني وعناصره وواجهاته.. الخ. صوب المتظاهرون غضبهم
نحو معلم ظاهر للاستبداد في هيئة "الكوز"، وهي هيئة "تلاقيط"
منتخبة من الفقه الإسلامي والآيديولوجيا العنصرية للطبقات المالكة في السودان
النيلي وعقيدة التحديث الاستعمارية انفرطت فعاليتها كخطاب للهيمنة.
طفى إلى السطح وسلطة البشير في مغيبها نحوٌ منافس للسلطان عناصره لمع ريادة
الأعمال وبرق الاستثمار والفعالية الإكلينيكية للإدارة البشرية والتصميم
الديجيتالي اللعوب والمرائي مبثوث وأعراف ليبرالية، وفاق هذا النحو في جذبه كحامل
للتحديث دراب الإسلاميين ثقيلي الظل. بل سحرت نجاحات نماذج نيوليبرالية للسلطان في
تركيا وماليزيا ألباب الإسلاميين أنفسهم وأنفضوا عن نموذجهم الماثل يلومون
مواطنيهم على فقدان الجلد أمام ابتلاء التحديث. تحولت اللحى المبذولة إلى شرائط
أنيقة القص، اقتصد الإسلاميون في الوضوء والصلاة وقد تولى عنهم كهان الصوفية
الجديدة العبادة والتقوى.
حقيقة الأمر أن اندغام السوق والمسجد استهلك غرضه لما اخترق التسليع كل مجال
حتى رعشة الورع في ليالي التراويح الرمضانية. لم يعد الإسلام السياسي على طريقة
"فلترق كل الدماء" ملائما لتسويق الأنماط الأكثر حذقا للاختراق الرأسمالي
بعد أن أدى وظيفته في قبض الموارد بنار الحرب وتحرير الأرض من سكانها في جغرافيات
كانت في كنف الاقتصاد المعيشي. بعبارة أخرى، فجر المحتوى قفص الشكل. ركل أساطين
السوق، لوردات رأس المال التجاري وموردي القمح وملوك العقارات والدولار ومصدري
الذهب والقطعان، ركلوا هيئة "أب جيقة" واتخذوا محلها هيئة رائد الأعمال
الأنيق في اتساق مع مطلوبات دوائر رأس المال الإقليمية والحلقات الكبرى للرأسمالية
الكونية. ليست الخرطوم دبي على شاطئ النيل بأية حال لكن مجرى النيل في هذه الخريطة
يصب في ميناء دبي.
ما رفعت الحكومة الانتقالية حتى الآن قدمها من "الأبنس" الذي كان
يشغله قدم البشير إلا لماما لكنها أعادت تعبئة سياسات اقتصادية شغلت باله في ثوب
عقائد التنمية الدولية. ابتدرت الحكومة الانتقالية التخلص من الدعم
الموجه لخبز القمح والوقود[9] باجتراح
تسعيرة مزدوجة للسلعتين: مدعومة نادرة أو معدومة وتجارية أقل ندرة. كما شرعت في
التخطيط لمشروع للدعم النقدي المباشر للأسر "الضعيفة" تحت إشراف برنامج
الغذاء العالمي[10]،
هو امتداد لخطة حكومة البشير في الهندسة الاجتماعية وسط استحسان دولي عارم. يجوز التساؤل الشكوك إن
كان تعميق التورط النقدي والتسليع هو الإجابة على أزمات السودان. على كل، تشير
البراهين من معسكرات النازحين في دارفور
إلى أن التحويلات المالية المباشرة ذات أثر مضاد إذ تفاقم من أسعار المحاصيل
الغذائية وتؤجج تقلبات السوق[11]. إلى
ذلك ساهمت زيادة عظيمة في مرتبات القطاع العام، الأعلى ربما تاريخ البلاد، في حفز التضخم
والارتفاع المتصاعد لأسعار السلع[12]. بلغة
الدولار، ارتفع الحد الأدني للأجور من حوالي 8 دولار إلى حوالي 61 دولار أمريكي في
الشهر. يأمل وزير مالية الحكومة الانتقالية أن يجابه الركود الاقتصادي الذي تفاقم بسبب
تدابير الحظر الصحي المصاحب للوقاية من وباء كورونا عبر تحفيز الإنفاق الاستهلاكي[13].
بالمقارنة، كانت الحكومة أقل استعدادا لدعم
المنتجين وتجاهد للاستيلاء
على محصول القمح من المزارعين في الولاية الشمالية وولاية الجزيرة عبر سعر احتكاري
ثابت تم تحديده بعد مفاوضات في مارس 2020، تظلم المزارعون وقت الحصاد من أنه دون
سعر السوق[14] وقد بلغ سعر السوق بعدها 30%
أكثر من سعر الحكومة[15].
فرض الولاة العسكريون في ولايتي الجزيرة والشمالية قرارا بمنع بيع وشراء ونقل
القمح خارج ولايتيهما[16][17]
وفقاً لقانون الطوارئ بهدف إنفاذ الاحتكار الحكومي ونشر جهاز المخابرات قوة خاصة لتأمين
حصاد القمح[18].
يصعب على الحكومة أن ترتد عن انحيازاتها، وعبارة
حكومة تستخدم عادة بأشكال متعددة وحذقة لتعبر عن هياكل السلطة: الجيوش والشرطة،
البيروقراطيين و قوى المال. زار وفد من مجلس الوزراء والمجلس السيادي قرية صغيرة في أقصى دارفور بالقرب من حدود افريقيا الوسطى والتقى
بعض أهلها فقال شيخ مسن مخاطبا رجالات الدولة: "نحنا مع الحكومة ومؤيدين
للرئيس البشير"؛ لم يأته بعد نبأ تغيير السلطان في الخرطوم كما يبدو. كتب
صحافي رافق الوفد معلقا أن ثورة ديسمبر 2018 ما زالت "مبارية الزلط"
ولم تخترق بعد فيافي السودان النائية.[19]. حق التدبر في المعنى الظاهر
والباطن كذلك لهذا القول الفطن.
[1]
https://www.amnesty.org/download/Documents/AFR5418932020ENGLISH.PDF
[2] https://www.theguardian.com/world/2019/jun/05/sudan-death-toll-rises-to-60-after-khartoum-pro-democracy-sit-in
[3] https://www.theguardian.com/world/2019/jun/11/sudan-troops-protesters-attack-sit-in-rape-khartoum-doctors-report
[4] https://uk.reuters.com/article/uk-sudan-politics/sudan-names-commission-to-investigate-killings-at-sit-in-idUKKBN1WZ0QK
[5] https://www.alquds.co.uk/رئيس-لجنة-التحقيق-في-فض-الاعتصام-في-الس/
[6] http://riftvalley.net/publication/mobilization-and-resistance-sudans-uprising
[7] John Emmius Davius 1991, Contested Ground: Collective
Action and the Urban Neighborhood, Cornell University Press, p.291.
[8] Henri Lefebvre 1996, Writings on Cities, Oxford.
[9] https://www.reuters.com/article/us-sudan-economy-idUSKBN1YV1LY
[10] https://www.wfp.org/news/sudan-government-and-wfp-sign-agreement-sudan-family-support-programme
[11] https://fews.net/sites/default/files/documents/reports/Sudan_MarketFundamentals_06152015.pdf
[12] https://www.dabangasudan.org/en/all-news/article/historic-salary-hike-sees-prices-soar-in-sudan
[13] https://aawsat.com/home/article/2286626/السودان-يبدأ-تنفيذ-زيادات-غير-مسبوقة-للأجور
[14] https://www.suna-sd.net/ar/single?id=604826
[15] https://www.alsudaninews.com/?p=67986
[16] https://suna-sd.net/ar/single?id=660199
[17] https://suna-sd.net/ar/single?id=660085
[18] https://suna-sd.net/ar/single?id=636135
[19] https://www.alsudaninews.com/ar/?p=73767
Comments
Post a Comment